الخميس، 5 مارس 2015

رأس المال في القرن الحادي والعشرين ونظرة على الحالة السعودية

قراءة في كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين 

(وتعليقات جانبية حول السعودية)

توما (توماس) بيكيتي

هذا الكتاب الضخم والذي نشر بالفرنسية أولا عام 2013 ثم بالإنجليزية ولغات أخرى العام الماضي قال عنه كبار الاقتصاديين مثل كروغمان ولاري سمرز وغيرهم بأنه قد يكون أهم كتاب اقتصادي نشر خلال العقد الماضي، إن لم يكن الأهم في آخر خمس وعشرين سنة. الكتاب أثار ضجة في أوساط الاقتصاديين، ما لبثت أن امتدت آثارها لشرائح أوسع من القراء والهتمين، ونشرت مئات المقالات مناقشة ومحللة لأبرز ما جاء في الكتاب. ولا يزال أهل الاختصاص منقسمين بين مؤيد ومعارض ومتحفظ على نظرية هذا الاقتصادي الفرنسي الذي صعد للنجومية، توما بيكيتي.

خلاصة الكتاب:

تكدس الثروات في أيدي القلة بات ظاهرة عالمية يزداد تفاقمها مع الوقت، وتنذر بنتائج وخيمة إن لم يتم تداركها.

بالنسبة للكاتب، فإن تناقض الرأسمالية الأساسي هو أن العائد على رأس المال (يرمز له بالحرف r) دائما يفوق معدل النمو الاقتصادي العام (g)
ويلخصها بالعلاقة: r > g

هذه الحقيقة كانت جلية للعيان في القرنين الثامن والتاسع عشر مع سيادة طبقة الإقطاعيين والطبقات المخملية، حيث كان يكفي أن يرث أحدهم من أسرته أو تتزوج احداهن بأحد أصحاب الأملاك، ثم تنتفي الحاجة للعمل بعد ذلك، حيث تكفي عوائد الأصول الثابتة (من إجارت ومكوس وغيرها) للصرف والإنفاق ببذخ، بينما تكاد تنعدم حظوظ من ولد ضمن طبقة المزارعين أو العمال في الثراء أو الصعود الاجتماعي، بل يغلب على حاله أن يولد فقيرا ويموت فقيرا. حقيقة رأس المال هذه التي يقررها بيكيتي توارت وانحسرت بعض الشيء في أوروبا لأسباب تاريخية بدأت مع الثورة الفرنسية وانتهت بالكساد العظيم في نهاية عشرينات القرن الماضي وما تبعها من الحروب العالمية. ولكن ظاهرة ازدياد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا بدأت تطل برأسها من جديد وبتسارع مقلق مؤخرا.

الهزات العنيفة التي أحدثتها الحربين العالميتين وما أسفر عنها من تدمير ومن ثم إعادة توزيع لرأس المال المتراكم أوهم الكثير بأن آفة الرأسمالية قد تم التغلب عليها، وأن تراكم الثروات في أيدي القلة على حساب الأكثرية قد ولى دون رجعة، حيث أعادت الحروب والدمار الكثير من سكان أوروبا للمربع الأول، وبدا ممكنا لأفواج الفقراء أن يلتحقوا بالعمل الصناعي أو الحكومي والحصول على جزء من كعكة الرأسمالية على شكل امتلاك منزل أو شقة وسيارة أو مزرعة صغيرة، أو حتى الوصول للثراء إن تضافر العمل الدؤوب مع التعليم وشيء من التوفيق، ولم يعد شرطا أن يولد المرء في أسرة مخملية ثرية ليحقق أحلامه في الثراء والصعود في طبقات المجتمع. كانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينات في أوروبا وفرنسا تحديدا تسمى بالثلاثين العظيمة أو الرائعة Les Trente Glorieuses نظرا للنمو الاقتصادي القوي حينها والذي بلغ في المتوسط 5% سنويا في أوروبا ولإحساس الناس بزوال عصر الطبقية والأرستقراطية.
في الواقع لم تكن تلك الفترة سوى الاستثناء، وسرعان ما عادت قوى الرأسمالية تعصف من جديد وأفرزت معها طبقية رأسمالية بأسماء مختلفة، وهي حقيقة باتت تتضح معالمها أكثر منذ الثمانينات وحتى الآن. كل الدلائل تشير إلى أن معدل النمو الاقتصادي العام في الدول الغنية (وأوروبا تحديدا) لن يتجاوز 1% إلى 1,5% في أحسن الأحوال خلال القرن القادم، وهذه النتيجة سبق أن أشار إليها أكثر من اقتصادي في السابق، أبرزهم الاقتصادي الإنجليزي ستيفن كنج في كتاب When the Money Runs Out. أسباب ذلك عديدة من بينها التباطؤ السكاني الكبير في هذه الدول وأسباب أخرى ليس هذا مجال سردها، كما أن جزءا من النمو السريع في حقبة (الثلاثين الرائعة) كان نتيجة لعملية اعمار ما بعد الحرب والإنفاق الحكومي الكبير على البرامج الاجتماعية، فهو نمو استثنائي خلقته ظروف يصعب تكرارها في المستقبل.
التباطؤ الاقتصادي المتوقع مستقبلا سيزيد من تفاقم الخلل في العلاقة r > g مما يعني المزيد من اللامساواة في توزيع الثروة بين القلة ذات النفوذ والأغلبية التي تعيش الكفاف.
العائد العالمي على رأس المال يستأنف مساره التصاعدي (أحمر غامق) بينما ينخفض معدل نمو الاقتصاد العالمي (الفاتح) وتزداد الفجوة

قوى الرأسمالية تسير حثيثا نحو تعميق فوارق الدخل والثروة بين الطبقات

الرسالة القاتمة في الكتاب هي كما أسلفت أن التحسن النسبي في مؤشرات اللامساواة الذي شهده العالم منذ خمسينات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينات لم يكن سوى حالة عابرة كونتها ظروف الحربين العالميتين وما خلفته من دمار أصاب الكثير من الثروات وأعاد توزيعها بين الطبقات. إلا أن تلك كانت حالة شاذة لها ظروفها، وسرعان ما استعادت قوى الرأسمالية الطاغية عافيتها ونحن الآن مقبلون على مرحلة تزداد معها فوارق الثروات بين طبقات المجتمعات كافة، وقد تستمر حتى تضج الجموع المغلوبة ويدخل العالم في موجات عنف واضطرابات تستمر أجيالا حتى تعود الأمور إلى نصابها. 

ومما يزيد الطين بلة هو أن التضخم في أسعار السلع الذي هو آفة الاقتصاد الحديث لا يؤثر كثيرا على المتحكمين في رأس المال، بل يكاد يتركز ضرره ضمن الطبقات المتوسطة والفقيرة التي لا تملك إلا رواتبها، فتتآكل مدخراتها وتضعف قوتها الشرائية، بينما يكتفي صاحب رأس المال بزيادة الأسعار أو الإيجارات على المستهلك. وهذا يعني ازدياد أهمية الثروات المتراكمة والتي تتوارثها الأسر الغنية، بينما سينحسر دور الإنجاز الشخصي في تشكيل الثروة، وهذا يُضعف رابط العقد الاجتماعي في الدول، وينسف الوعود البراقة بأن لكل مجتهد نصيب من كعكة الثروة. 

تركيبة طبقة أغنى 1% في المجتمع أو حتى ال 0,1% طرأ عليها بعض التغيير، فبعد أن كان جلها من أصحاب الأملاك من الإقطاعيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، أصحبت الآن مزيجا بين أصحاب الأملاك وبين كبار المدراء التنفيذيين بالإضافة لبعض نجوم السينما والفن والرياضة، حيث لم يعد مستغربا أن يحصل كبار مسؤولي الشركات على رواتب وحوافز بعشرات الملايين في العام الواحد دون أن يجد حملة الأسهم حرجا في ذلك. في رأي الكاتب، فإن العقلية الجمعية في المجتمعات الحديثة صارت أكثر تقبلا وتعاطفا مع الأثرياء من هذا النوع مقارنة بالصورة النمطية بالثري الوارث الذي ولد "وفي فمه ملعقة من ذهب"، حيت تروج وسائل الإعلام وكتب الإدارة لقصص نجاح هؤلاء المدراء لإضفاء نوع من الشرعية على رواتبهم الهائلة، ولتحاول اقناع الناس بأن هذه الثروات قد استحقها هؤلاء فعلا نتيجة جدارتهم ومهارتهم في إدارة الشركات. في الواقع، فإن كل من له اطلاع على واقع سير الأعمال يدرك أن هذه النظرة فيها الكثير من المثالية والسطحية، فليس من المعقول أن انتاجية المدير التنفيذي في شركة كبرى تفوق بمئة ضعف انتاجية المهندس في إدارة تطوير المنتجات مثلا، ولكن الواقع الفارق بين راتبيهما قد يوحي بذلك.
نصيب أغنى 10% من السكان في مجموع ثروة البلاد في أمريكا، تكدس الثروة في يد القلة واضح منذ منتصف الثمانينات

المال يولد المال

ولكن، ألا يستطيع أي انسان أن يحصل على جزء من العائد المرتفع على رأس المال (r) عن طريق مشاركته المباشرة في أسواق الأسهم والأصول المالية مثلا، حتى وإن كان يعتاش على راتبه؟ هنا يوضح الكاتب بأن المحافظ المالية قليلة رأس المال تكون عرضة لهزات السوق الدائمة واحتمال خسارتها كبير، خصوصا إذا حسبنا تكلفة إدارتها ورسوم عمليات البيع والشراء وغيرها. في المقابل، فإن المحافظ الاستثمارية الكبيرة (عشرات الملايين وأكثر) تُدر عائدا أفضل بكثير من متوسط السوق، حيث يُمَكّنها حجم أصولها الضخم من تنويع الأدوات الاستثمارية وتقليل المخاطر بشكل كبير، كما أن المحافظ المليونية أو المليارية قادرة على تعيين أفضل المدراء الماليين والحصول على معلومات سريعة ودقيقة غير متوفرة لصغار المستثمرين. الكاتب هنا يعرض مقارنة لأداء أوقاف الجامعات الكبرى في أمريكا، والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، بالإضافة لأداء الصناديق السيادية للنرويج وأبوظبي، حيث تحقق هذه الأوقاف والصناديق عوائد بين 6 إلى 10% سنويا، أي أعلى بكثير من عوائد أي مؤشر مستقل بعينه، وحتما أعلى من النمو الاقتصادي العام. والخلاصة هي أن أصحاب الثروة الكبيرة ابتداء أقدر على تنميتها من غيرهم، مما يخلق حائلا بين الطبقات الثرية وبين الطامحين من أهل الطبقات الدنيا.
العائد على استثمارات أوقاف الجامعات الغنية في أمريكا (يزداد العائد مع زيادة حجم الأصول)

دور الضرائب في تقليص الفجوة:

يتسلسل الكاتب في بناء وجهة نظره حتى يصل لمقترح قد يحد من آفات الرأسمالية وسيلها الهادر الذي يكدس الثروات في أيدي القلة بنسب متسارعة. الحل يتمحور حول فرض ضرائب متصاعدة على الطبقات الثرية، ويفضَّل أن تكون هذه الضريبة عالمية، يعنى أن صاحب الثروة لن يستطيع الهرب بأمواله واستثماراته لبد آمن ضريبيا كجزر الكاريبي مثلا، بل إن الضريبة المقترحة لابد من تنسيق تحصيلها عالميا بين الدول. الجيد في هذا المقترح هو أن نسبة الضريبة (إن تم فرضها بصرامة) قد لا تزيد على 1% على مجموع الثروات (بالإضافة لضريبة الدخل المعمول بها أصلا في كل بلد على حدة). فباستثناء ضريبة العقارات، تكاد لا توجد ضرائب تذكر حاليا على أشكال الثروات المتراكمة سواء أرصدة بنوك أو أصول شركات وأسهم أو صناديق عائلية. نسبة ضريبة على الثروات المتراكمة كالتي يقترحها الكاتب -وهي أقل من نسبة زكاة المال في الإسلام- كفيلة من وجهة نظره بإعادة التوازن وتحقيق شيء من العدالة في توزيع الثروات. أما الجانب الصعب في هذا المقترح هو أن حلا كهذا يتطلب اجماعا أمميا عالميا، وهو أمر صعب من وجهين، الأول ضعف الثقة بين الدول غنيها وفقيرها وشبه استحالة إجماعهم على قرار كهذا، والأمر الثاني هو أن قوى المال الخفية التي تُسيِّر اللعبة في الظل لديها من المصالح والنفوذ ما يجعل أي قرار يمس بها صعب المنال إن لم يكن مستحيلا ما لم يجد العالم وسيلة لتفكيك نفوذ أرباب المال المتغلغل في مفاصل اللاقتصاد العالمي.

ماذا عن دور التعليم في الترقي المجتمعي والمالي للأفراد؟

الحل لخلل توزيع الثروة لا ينحصر فقط في نظام الضرائب أو فرض الحد الأدنى للأجور، لكن لب السألة ترتكز على التعليم ورفع مستوى أفراد الشعب كافة، وتمكين أبناء الطبقات الدنيا من تضييق فجوة الدخل من خلال منافسة الشريفة في مجال التعليم والمهارة. ولكن هل ميدان المنافسة من خلال التعليم والتأهيل في منأى عن الطبقية هو الآخر؟  الآفة هي أن مجال التعليم يعاني أيضا من آثار استئثار القلة بالثروة، حيث أن نظام التعليم الممتاز ليس متاحا للكل، بل يكاد يكون محصورا لأصحاب الدخل العالي. فالمدارس الخاصة غالية الثمن والجامعات الراقية في العالم (هارفارد، ييل، برينستون...) معظم طلابها ينتمون لشريحة أغنى 2% من السكان البلد كمتوسط، بينما لا تكاد ترى بينهم أبناء أصحاب الدخل المنخفض في الغالب، هذا إن تمكنوا من الحصول على تعليم عام جيد في المدارس الحكومية ابتداء. هذه الفوارق في جودة التأهيل العلمي بالإضافة إلى ما توفره الجامعات الراقية من صلات وعلاقات مع صناع القرار مقارنة بمدارس وجامعات الطبقات المتواضعة، تكرس على المدى البعيد هذا التمايز بين الطبقات وتعمق الفجوة بين أصحاب الثروات وغيرهم.

الحلول المقترحة في الكتاب:

رغم المصاعب، فإن الكاتب ينادي بالاستثمار في التعليم وفي التقنيات المنسجمة مع البيئة، مع فرض ضريبة بسيطة لكن تصاعدية على إجمالي رأس المال في العالم، وليس عائد رأس المال وحسب. ضريبة كهذه في حدود 0,5% أو أقل لن تؤثر على سير الأعمال ولكنها ستُفرض على قاعدة مالية كبيرة ويعاد توزيعها على طبقات المجتمع من خلال برامج حكومية مفيدة.
وهنا ينادي الكاتب بأن الديمقراطية السياسية هي الحل الوحيد الذي يملك إنقاذ العالم، ويدعو إلى وحدة أوروبية حول الضريبة وسياسات الإنفاق والمال حيث تصبح أوروبا كأنها مجموعة ولايات كالولايات المتحدة الأمريكية، تدير أمورها المحلية بنفسها، لكن تحكمها سياسات فيديرالية عُليا لا تحيد عنها. اقتراح الكاتب يدعو بالضرورة إلى شيء مماثل على مستوى العالم في شكل حكومة عالمية مع نفوذ لفرض الضرائب والمكوس الملاحقة القضائية وتدقيق الحسابات.


  • كمية البيانات التاريخية هائلة، والكتاب قد يبدو جافا بسبب كثرة الرسومات البيانية، ولكن الكاتب حرص على أن لا يتجاوز ما هو ضروري لعرض فكرته. الكاتب وفريق بحثه أمضوا قرابة عشر سنوات من التدقيق في وثائق الضريبة الأوروبية والفرنسية خصيصا ليرسموا تصورا واضحا حول مسار تكدس الثروات وتوزيعها بين الطبقات. 
  • الكتاب يحوي جهدا بحثيا رائعا، والنتائج التي يعرضها قد تصل بالمؤلف لنيل جائزة نوبل في مجاله مستقبلا.
  • أهمية الكتاب تكمن في إعادة تسليطه الضوء على موضوع اللامساواة وسوء توزيع الثروات في العالم وضمن المجتمعات. قد يبدو هذا الموضوع حاضرا في أذهان الكثير، لكن الكتابات المتخصصة الاقتصادية قد تناست أو أغفلت هذا الجانب على مدى العقود الماضية، حيث ما فتئ الاقتصاديون بترديد أن مسألة توزيع الكعكة والحكم على (عدالة) توزيع معين دون غيره هي خارج اختصاصات الاقتصاد لأنها داخلة ضمن الأسئلة الأخلاقية وأحكام والصواب والخطأ، ولا تنسجم مع "الحياد العلمي" للاقتصاد كعلم تجريبي. بيكيتي بكتابه هذا أعاد هذا السؤال إلى مركز الاهتمام، خصوصا وأن البيانات الهائلة التي جمعها غير قابلة للأنكار وتؤكد على وجود خلل ما. بيكيتي يذهب لأبعد من هذا بتقرير أن هذا الخلل يؤدي بالضرورة لمشاكل اقتصادية عامة، يتعدى ضررها مجرد الجدل الأخلاقي.