الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

اقتصاديون منسيون ومحاولات طمس التاريخ

هذا المقال نشر في جريدة الوطن السعودية بتاريخ ٢٧-٩-٢٠١٦

الإمكان أن نعد أكثر من 30 عالما مسلما ممن جاؤوا قبل ابن خلدون، وتكلموا بعمق واستيعاب عن الظواهر الاقتصادية في زمانهم، كحركة الأسواق والإنتاج وطبيعة النقود وسياسة الإنفاق والضرائب


جوزيف شومبيتر، الذي يعد من أبرز اقتصاديي القرن العشرين، ألّف كتابا موسوعيا عام 1954 في أكثر من 1200 صفحة، بعنوان (تاريخ التحليل الاقتصادي)، تناول خلاله تاريخ الفكر الاقتصادي منذ أيام الإغريق والرومان (كأفلاطون وأرسطو) وحتى منتصف القرن العشرين. هذا الكتاب الضخم الذي يعتبر مرجعا لا غنى عنه عند الباحث المعاصر، يوحي إليك حجمه بأنه لم يترك شاردة أو واردة من إسهامات العلماء عبر التاريخ في علم الاقتصاد إلا ذكر شيئا منها أو نوه إليها، ولكن المفاجأة هي أنه عندما انتهى من ذكر إضافات عصر الرومان حول مفهوم الأسعار والقيمة، استهل الفصل الثاني بعنوان: (الفجوة العظيمة)، ثم قفز مباشرة إلى مفكري القرن الثالث عشر الميلادي في أوروبا! 
يدّعي شومبيتر بأن علم الاقتصاد شهد (فجوة) فكرية وخمولا شديدا على مدى 500 عام منذ نهاية عصر الرومان، وحتى بداية عصور التنوير في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي، وأنه لا يوجد خلال هذه الفجوة التاريخية ما يستحق الذكر في المجال الاقتصادي، وبالتالي فإن القفز عليها وتجاوزها له ما يبرره.. هكذا وبكل وبساطة، يُنحّي شومبيتر فترة توهج الحضارة الإسلامية، ويتجاهل إسهامات علمائها الاقتصادية بشكل صارخ، وهو أمر يتكرر كثيرا عند مؤرخي الغرب الذين يعتبرون أوروبا مركز العالم. ويعممون تجربة عصور الظلام الأوروبية وكأنها شملت الكوكب كله، رغم أن عدد سكان أوروبا في عصور الظلام لم يتجاوز 10% من سكان العالم! 
هذه الفوقية الأوروبية في التعامل مع الحضارات الشرقية وحضارة الإسلام ليست جديدة، حتى إن بعض المنصفين من مفكري الغرب المتأخرين مثل المؤرخ هاري لاندرث أدرك هذا الخلل، وبدأ يطالب بإعادة النظر في دور العرب والمسلمين في مسيرة الفكر الاقتصادية، وتصحيح خطأ شومبيتر، لكن محاولات التصحيح والمراجعة هذه تبدو خجولة، ولا تتجاوز بعض الإشادة على استحياء بابن خلدون ونظريته في علوم الاجتماع وجوانبها الاقتصادية في نمو العمران وغيرها. هذه الاستدراك الغربي المتأخر أوهم بعض مثقفي العرب بأن ابن خلدون -رغم نبوغه- كان أول علماء المسلمين سبقا إلى الفكر الاقتصادي. 
في الواقع، بالإمكان أن نعدّ أكثر من 30 عالما مسلما ممن جاؤوا قبل ابن خلدون، وتكلموا بعمق واستيعاب عن الظواهر الاقتصادية في زمانهم، كحركة الأسواق والإنتاج وطبيعة النقود وسياسة الإنفاق والضرائب وعلاقتها بنواميس المجتمع، وأظهروا رقيا منطقيا في تحليل الأسباب والنتائج، بل إن كثيرا مما نقرؤه اليوم في كتب الاقتصاد، يفوح بعبق علماء الجيل الذهبي عند المسلمين، كما سيظهر لك في هذه الاستعراض السريع. 
من أوائل من تكلموا عن أثر ما يسميه المختصون اليوم بالصدمات في مستوى العرض (random shocks) كان عبدالله بن المقفع في كتاب (رسالة الصحابة)، فذكر أن الآفات التي تصيب المحاصيل الزراعية من شأنها أن تؤثر في سعر السوق، ومن ثم يَضعُف دخل المزارعين، وتتأثر ضرائب الدولة سلبا. أما القاضي أبو يوسف، الإمام العلامة الذي تولى القضاء في عهد هارون الرشيد، فألف (كتاب الخراج)، ووصل إلى الرأي الذي يُجمع عليه اقتصاديو اليوم بأن الضرائب شر لابد منه، لأنها تعتبر (عقوبة) على الإنتاج، ومن ثم وَجَب قَصرُها على تمويل مشاريع الدولة ذات المنفعة العامة. كما رأى أبو يوسف أن تكون ضريبة الأرض الزراعية نسبة من قيمة الغلة السنوية، لا أن تكون مبلغا ثابتا كل عام. وطالب بضرورة تقييم المحصول في السوق الحرة، كما يعرف اليوم بـ(mark to markets)، لأن ذلك ادعى إلى الشفافية، وأبعد عن تلاعب عمال الضرائب. هذا التحليل العميق لم يتوصل إلى مدلوله اقتصاديو الغرب إلا مؤخرا. 
أما ابن قدامة المقدسي، الفقيه الحنبلي الجليل، فقد كان يعارض مبدأ تحديد الأسعار من قبل الدولة أو السلطة، ولم يكتف لبيان رأيه بما رُوي في كتب الحديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يُسعّر للناس لما طلبوا ذلك، بل زاد على النص بأن أورد تحليلا اقتصاديا رفيعا عن ضرر التحديد المركزي للأسعار، وأن من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية، كاضطراب حركة التجارة، ونقص البضائع المستوردة في السوق، وحصول الشح في السلع، وتدهور رفاهية المواطنين إجمالا. فكم من المعاناة كان سيتجنبها أصحاب المبادئ الاشتراكية والتخطيط المركزي في الاقتصاد لو هم قرؤوا واستوعبوا تحليل ابن قدامة! 
وفي كتاب (الحسبة في الإسلام) يجيب شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة العالم المُدرك لما يدور حوله من ظواهر، على سائل يشتكي من ارتفاع الأسعار - والتي كان يغلب عليها الثبات في ذلك العهد - ويبين أن ذلك ليس بالضرورة راجعا لظلم التجار أو تلاعبهم، بل قد يعود لتغير ظروف العرض والطلب (شح السلعة مع زيادة الطلب عليها)، ومدى شدة استجابة الطلب لارتفاع الأسعار. وهذه الإجابة هي تماما ما يُعرف اليوم بتحرك منحنيات العرض والطلب، ومفهوم مرونة الطلب (elasticity of demand)، كما نفهمها في مصطلحات الاقتصاد الحديثة. 
هؤلاء الأفذاذ، وغيرهم الكثير ممن لم ننل شرف ذكرهم، يظن أكثر الناس أن إنتاجهم الفكري كان مقتصرا على علوم الشريعة بالمعنى الضيق، بيد أنهم امتلكوا فكرا ثاقبا وشاملا لحركة الإنسان في الحياة، فتناولوا ظواهر اجتماعية اقتصادية صرفة، بكل منطقية وانسجام مع المنهج الرباني ودون تشنج.
ما ذكرته بإيجاز لشيء من الآراء الاقتصادية الأصيلة عند كوكبة من مفكري عصر النهضة الإسلامي هو تفنيد لنظرية (الفجوة) التي ابتدعها شومبيتر وغيره، وإحياء للاعتزاز في نفوس المهتمين بالاقتصاد، أو المقبلين على دراسته، وليعلموا أننا لسنا متطفلين على هذا العلم القيّم، بل كانت لأسلافنا إسهامات جذرية فيه، شكلت لبنات مهمة في بناء هذا العلم الذي انتهى إلى ما نراه اليوم، وهو بلا شك في اشتياق لاستئناف مساهمات المسلمين فيه.

بين الغزالي وآدم سميث: هل وقع الحافر على الحافر


هذا المقال نشر في جريدة الوطن السعودية بتاريخ ١٥-٩-٢٠١٦

الفرد لا يملك، مهما كثرت علومه ومهاراته، القيام بكل الأعمال اللازمة لصناعة شيء من الألف إلى الياء، ولو كان ببساطة معطف صوف


فكٍّر عزيزي القارئ في أبسط منتج يخطر على بالك، سواء كان قلما أو كوبا بلاستيكيا أو معطفا من الصوف.. ما هي المهارات اللازمة لصناعة هذا المنتج؟ قد تتسرع فتقول: الأمر سهل، فكل ما يلزم لمعطف الصوف مثلا هو قماش صوف ملون ومقص وبعض الخيوط والإبر، وتنتهي المسألة.. فكّر مرة أخرى يا صديقي، وتأمل هذه المرة فيما بين يديك، واستحضر سلسلة الإنتاج الطويلة والمعقدة، بدءا من المواد الأولية، مرورا بعملية النقل لكل منها، فالمنتجات الوسيطة، انتهاء بالحِرف النهائية الداخلة في استكمال المعطف، فستدرك أن معجزة اقتصادية يسرها الله لك لتنعم بأبسط المنتجات، وأن الفرد لا يملك، مهما كثرت علومه ومهاراته، القيام بكل الأعمال اللازمة لصناعة شيء من الألف إلى الياء ولو كان ببساطة معطف صوف.
كانت هذه الملاحظة الدقيقة والنافذة في عمقها مما أورده آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم). آدم سميث هذا، هو الفيلسوف الأسكتلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر، والذي يُجمعُ مؤرخو علم الاقتصاد في الغرب على أنه أبوالاقتصاد الحديث. حيث تكلم عن الظواهر الاقتصادية حوله من طبيعة الأسواق الحرة وعمليات الإنتاج بأسلوب منطقي مترابط، وبيّن كيف أن آليات السوق، والتنظيم الحصيف لعمليات التصنيع وتوزيع الأدوار له أبرز الأثر في زيادة دخل الدول ومضاعفة الإنتاج ورفع المستوى المادي للشعوب.
ومن أبرز الأمثلة التي تكلم عنها سميث في كتابه (ثروة الأمم)، والذي ما زال اقتصاديو الغرب يشيرون إليه في معرض الثناء والمديح، ويستشهدون به على سبقِ سميث عصرَه، هو مثال صناعة معطف الصوف. يقول سميث (ترجمتي بتصرف): "معطف الصوف مثلا، مهما كان خشنا غليظا، فهو في الحقيقة ثمرة تعاون ما لا يحصى من الأيدي العاملة. بدءا من راعي الغنم، فجزاز الصوف وجامعه، فماشط الصوف، إلى الصابغ، فالناقش والمطرز، إلى الغازل، فعامل التنشِية، مرورا بالناسج إلى الحائك ومفصّل القماش، ومعهم الكثير من البشر الذين يلزم اشتراكهم وتعاضدهم في كل واحدة من هذه الخطوات السابقة. ثم اسأل نفسك، كم من التجار والحمالين كذلك كانت لهم يد في تيسير عملية نقل وإيصال كل من هؤلاء الحرفيين بعضهم ببعض، رغم ما قد يفصل بينهم من مسافات شاسعة وبحار واسعة؟ ما حجم التجارة التي تمت، والملاحة والبواخر التي سارت، ومسيرات القوافل الطويلة؟ كم من صُناعِ السفن والبحّارة وصانعي الأشرعة والحبال؟ ما هي الحرف والصناعات التي لزم حصولها واجتماعها لتوفير أدوات كالمغزلة وآلة الحياكة والتطريز وآلة جز الصوف؟ ناهيك عن الآلات الأكثر تعقيدا؟ دعونا نتفكر لبرهة في أنواع الأعمال التي اجتمعت لجعل شيء كهذا ممكنا..". 
في هذا المثال المثير، يشير آدم سميث إلى أمرين مهمين، أولا أن تبادل السلع والخدمات، والتخصص في المهارات، وانشغال كل إنسان بما يُحسن هو سر العمران الحضاري وارتقاء جودة المصنوعات، فلا يستطيع إنسان أن ينعزل بمفرده وينتج حاجياته كلها مهما كانت بسيطة، وثانيا أن السوق الحر وانتقال البضائع بين الناس وبين البلدان، وسعي كل إنسان لتحقيق منفعته هو السر في تنظيم هذه (الأوركسترا) الإنتاجية.. إذ يستحيل أن يقوم إنسان بتنظيم سلسلة الإنتاج هذه بمفرده، بل ليس أفضل من آلية السوق الحرة لتربط هذه الحرف والصنائع ببعضها. وهذا ما يشير إليه الاقتصاديون اليوم بـ(اليد الخفية) للسوق. 
ثم أورد سميث مثالا آخر في نفس الكتاب عن مصنع الإبرة، وكيف أنه يَدخل في صناعتها 18 عملا مختلفا، وقال إن تخصص كل عامل بواحد منها يؤدي إلى مضاعفة الإنتاج. وكان هذا المثال أساسا لمفهوم (العملية الصناعية) الحديث، والذي يقوم عليه تصميم المصانع الأوتوماتيكية اليوم. 
هذه الملاحظات بلا شك تعكس رؤية اقتصادية ناضجة عند آدم سميث، ولكن هل انفرد وحده بالسَّبق في ملاحظة هذه الظواهر؟ 
أترككم مع هذا النص للإمام أبي حامد الغزالي، والذي ورد في كتابه الشهير (إحياء علوم الدين): 
"لننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض، فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض، ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه، ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة، ثم تنقية الأرض من الحشيش، ثم الحصاد، ثم الفرك والتنقية، ثم الطحن، ثم العجين، ثم الخبز، فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره، وعدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره، وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار، وحداد وغيرهما! وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس… -إلى أن قال- فإن فتشت علمت أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع".
وبعد هذا المثال المذهل، يقول الغزالي: "حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على الإبري خمسا وعشرين مرة، ويتعاطى في كل مرة منها عملا".
فإذا علمنا أن الغزالي عاش قبل آدم سميث بحوالي 600 سنة، حُقّ لنا أن نتساءل عن مدى (توارد الخواطر) العجيب بينهما، وكيف اتفقا على أمثلة متشابهة، بل متطابقة كما في مثال صناعة الإبرة! ولا يسعنا سوى أن نقول رحم الله العالم الموسوعي الجليل أبا حامد الغزالي، وقليلا من الإنصاف يا مفكري الشرق والغرب.

نحو فهم شامل لعلم الاقتصاد

هذا المقال نشر في جريدة الوطن السعودية بتاريخ ٦-٩-٢٠١٦


أزعم أننا بحاجة إلى فهم أعمق لعلم الاقتصاد، كعلم يسعى إلى تفسير معظم ظواهر حياة الأفراد والجماعات، سواء في مناحيها المتعلقة بالكسب والمال، أو جوانبها الاجتماعية والسياسية، بل وحتى الدينية. 
وأزعم أيضا أن ما يقدم لنا ككتابات أو تعليقات وآراء اقتصادية، لا يحمل سوى لمحات طفيفة من هذا العلم العميق، ولا ينفذ -في الغالب الأعم- إلى لبه وحقيقته. 
فبينما يعتقد كثيرون أن الاقتصاد يقتصر على مجال المال وسوق الأسهم وأمور مشابهة كأرقام البطالة والتضخم وسعر صرف العملة، نجد أن علماء الاقتصاد ومؤلفيه حول العالم استطالت أيديهم، فدخلوا في مواضيع كان يراها البعض حكرا على علوم السياسة أو علوم السوسيولوجيا، فكتبوا في خيارات الفرد المتعلقة بحياته الاجتماعية والفردية، بل وحتى في تنظيم الأسرة واختيار زوج المستقبل، إضافة طبعا إلى المواضيع التقليدية المذكورة أعلاه. ولا أدَلّ على انتشار هذا المذهب الاقتصادي الشامل اليوم من الشعبية الواسعة لكتب مثل "فريكونوميكس" لمؤلفه الاقتصادي في جامعة شيكاغو ستيفين لوفيت، ومِثلُهُ كثير من الكتب التي تُطبّق آليات النظريات الاقتصادية على الظواهر والسلوكيات اليومية للأفراد، مُحاوِلةً شرح الدوافع العقلانية خلفها. 
مواضيع هذه الكتب ربما تبدو غريبة ومثيرة في البداية، كتفسير حالات الغش في المباريات الرياضية والمدارس، أو إظهار الجانب العقلاني عند من يلتحقون بالعصابات المنظمة في شوارع أميركا وخياراتهم الاجتماعية، أو تفنيد بعض الاعتقادات الخاطئة حول تربية الأطفال أو تعليمهم.. إلخ 
الاقتصاد في الأصل علم من علوم الاجتماع، يسعى إلى دراسة سلوك البشر أمام خيارات الحياة وقيودها، وتفسيرها تفسيرا منطقيا عقلانيا. 
هذا الفهم الشامل ليس جديدا، فآدم سميث، الذي يعدّه الغرب مؤسِس علم الاقتصاد الحديث، لم يكن يُفرّق في كتاباته الاقتصادية بين الجوانب التجارية البحتة والجوانب الاجتماعية والسياسية. وقَبله وضع ابن خلدون أساسا نظريا فسّر خلاله صعود الأمم وثراء الشعوب في إطار اقتصادي وسلوكي مترابط، ونَفذَ إلى أعماق القرار البشري بكل دوافعه وأهدافه مجردا من المثاليات. 
وكان لعلماء المسلمين، سواء من سبق ابن خلدون كالغزالي أو أتى بعده كابن القيم، إسهامات في مواضيع اقتصادية ربطت رغبة الإنسان في تعظيم منفعته سواء دنيوية أو أخروية، ضمن منظور متكامل يتناول حياته الخاصة والعامة. 
هذه الإسهامات الاقتصادية تجاهلها الغرب عندما كتب في تاريخ الفكر الاقتصادي، وغفل عنها المسلمون مع الأسف.
الشاهد من هذا، هو أن الاقتصاد عبارة عن منهج تحليلي متكامل، يقوم على افتراض أن الإنسان يحرص على تعظيم منفعته، بكل تعريفاتها سواء منفعة مادية أو اجتماعية أو دينية، كل هذا ضمن ذوق الفرد ورغباته التي تختلف بحسب حاله وظروفه والمعلومات المتوافرة لديه، بينما تَحُولُ بينه وبين رغباته المطلقة قيود مادية أو معنوية، كعدم توافر ما يطلبه أو ارتفاع ثمنه، وعلى أساس اختلاف هذه القيود والظروف يختلف سلوكه وخياره، دون أن يخرج عن حيز العقلانية والمنطق. 
فتحديد كمية إنتاج مصنع ذي تكاليف معينة هي مسألة اقتصادية، كذلك قرار بناء طريق عام، أو فرض رسوم على خدمة معينة، أو تحديد طبيعة المنافسة، أو الاحتكار في سوق سلعة ما، كل هذا مما اتُفقَ على خضوعه لمجال التحليل الاقتصادي. 
لكن، هل تعلم مثلا أن قرار اختيار زوجة المستقبل والحرص على كونها من ديانتك نفسها يمكن أن ُيفهم ضمن الإطار التحليلي لنظريات الاقتصاد بهدف رفع كفاءة "الإنتاج المنزلي"؟، وأن اختيار الشخص تخصصه الجامعي أو الوظيفة التي يرغب التقديم عليها، يمكن أيضا أن يخضع للأدوات التحليلية نفسها فيما يعرف بنظرية الألعاب الإستراتيجية؟ بل إن مشكلة التوفيق بين متبرعي الأعضاء البشرية "كالكلى مثلا" وبين المستحقين بحسب حالتهم لها حلٌ رياضيٌ كُتب بلغة الاقتصاد، وألّفَ فيه أحد كبار الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل في هذا المجال. وهذا غيض من فيض. 
ما أريد أن أختم به، هو أن علم الاقتصاد يسعى أولا إلى تفسير الظواهر الاجتماعية المختلفة، خلال عرضها على إطار منطقي ذي مرتكزات ثابتة، تمثل الرياضيات الحديثة لغتَه اليوم، وأن أي طرح لمواضيع تبدو في ظاهرها اقتصادية دون النفاذ إلى الأسباب السلوكية أو التنظيمية أو الاجتماعية الكامنة وراءها، يظل طرحا ناقصا في ضوء هذا المفهوم الشامل.

ياسر فقيه 2016-09-06 2:06 AM