الاثنين، 31 أغسطس 2015

الاقتراض مقابل استنزاف الاحتياطي.. أيهما الأجدى؟

لماذا نلجأ للاقتراض الداخلي عبر إصدار سندات حكومية ونحن نملك احتياطيا كبيرا من النقد الأجنبي؟

عندما أعلنت المملكة عن إصدار سندات حكومية (ديون) لعدد من المؤسسات السيادية العامة والبنوك المحلية، كانت هناك عدة تساؤلات عما إذا كان هذا الإجراء (الاقتراض من الداخل) أفضل وأجدى من استمرار السحب من الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية وحده. محور التحفظ على سياسة الاقتراض هي: لماذا نقترض الآن ونضطر إلى سداد الدين مستقبلا مع فوائده، ونحن لدينا احتياطي ممكن أن نسحب منه بدون فوائد؟ 

بداية، الاقتراض ليس مرغوبا في حد ذاته، لكن هناك حالات تلجأ فيها الحكومات للاقتراض لسداد عجز في الميزانية لأي سبب من الأسباب، سواء كان عارضا قصير المدى أو طويل المدى. 

كما ينبغي أن ندرك أن القرارات التي تتخذها الحكومات الآن فيما يتعلق بالسياسة النقدية أو السياسة المالية حتما ستؤثر على الخيارات المتاحة أمامها في المستقبل، أي أن كل قرار الآن له تبعات في المستقبل، وعلى هذا ينبني الجواب على التساؤل أعلاه. 

لماذا تحرص الدول على الحفاظ على كمية جيدة من الاحتياطي الأجنبي؟ 

الاحتياطي الأجنبي له دور فعال في مجالات لا تستطيع الديون وحدها التعويض عنها. من ذلك أنه:
  • وسيلة لسداد المستحقات الدولية من فواتير الواردات وخدمة الديون السيادية والتجارية، سواء استخدم الاحتياطي الأجنبي مباشرة، أو تم تسييل بعض الاستثمارات في سندات الخزانة الأمريكية للحصول على النقد.
  • وسيلة لتأكيد الثقة في ثبات العملة المحلية وسعر صرفها عالميا، وتقليل احتمال هجمات المضاربين على العملة، والتدخل السريع في أسواق العملات في حال التذبذب في سعر الصرف بشكل كبير
  • وسيلة لامتصاص الصدمات الاقتصادية والمالية التي قد تفاجئ الحكومة (Buffer)
طبعا، هناك حكومات تلجأ للاحتياطي لتمويل عجز الميزانية أو لتمويل مشاريع وبرامج حكومية معينة، ولا يوجد ما يمنعها من ذلك، لكن أردت فقط توضيح أن الدور الأساسي للاحتياطي الأجنبي يتجاوز مجرد تمويل العجز، بل له مزايا معينة لا يمكن لوسيلة تمويل أخرى القيام بها.

والآن نناقش الاقتراض وبيع السندات الحكومية:

  • إصدار السندات (الاقتراض) الآن بينما الاحتياطي الإجمالي (من ودائع واحتياطي حكومي أو ودائع أخرى) لازال كبيرا يعني أن سعر الفائدة على القروض ستكون قليلة، بعكس لو استنزفنا الاحتياطي أولا ثم اتجهنا إلى سوق الإقراض ونحن لا نملك الضمانات الكافية على سلامة الاقتصاد، فستكون تكلفة الاقتراض عندها عالية جدا. 
  • ثقة السوق في موقف الحكومة المالي (بسبب الاحتياطي الكبير) يجعل في مقدورها إصدار سندات الدين بالعملة المحلية (الريال مثلا)، لأن الثقة في ثبات الريال مرتبطة بالاحتياطي
    • اصدار الدين بالريال له فوائد، أهمها أن الحكومة ستتمكن دائما من السداد، حتى لو تآكلت القدرة الشرائية للريال في المستقبل.
    • لو اهتزت الثقة في قيمة الريال بسبب استنزاف الاحتياطي، فلن يقبل به الدائنون، وستضطر الحكومة لإصدار سندات دين بالعملة الأجنبية، مما لا يتيح للحكومة المرونة في كيفية سداد الدين مستقبلا
  •  إصدار السندات هي وسيلة من وسائل السياسة النقدية، حيث تتيح السندات القدرة على سحب سيولة من السوق والبنوك إن أرادت الحكومة ذلك حسب سياستها. طبعا سحب السيولة من الاقتصاد فيه مزاحمة لباقي المقترضين من مواطنين وشركات، وهذا يرفع سعر الفائدة على الجميع، وقد لا يكون في مصلحة البلد إن كان الهدف تحفيز الاقتصاد.
  • بيع السندات هي طريقة لزيادة دخل الحكومة وفي نفس الوقت توفير عائد استثماري لمن يحملون هذه السندات. وبهذا تكون وسيلة جيدة لتسعير الديون المختلفة في البلد، بما فيها ديون الشركات عن طريق توفير أسعار فائدة معيارية (benchmark)

ختاما

إصدار الديون ليس حلا مثاليا، لكن توقيت إصدارها الآن أفضل من استنزاف الاحتياطي بالكامل ومن ثم اللجوء للاقتراض، للأسباب المذكورة أعلاه. 
 بالطبع، لا تستطيع أي حكومة الاستمرار في إصدار الديون بشكل دائم، حيث لابد من سداد هذه الديون من فوائدها في وقت ما. اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن يستمر النمو الاقتصادي بوتيرة أسرع من معدل الفائدة للأبد، مما يسمح للاقتصاد بامتصاص المزيد من سندات الدين، وهذا شبه محال. 
خيار الديون هو خيار يعتمد على توجه الحكومة ونظرتها للمستقبل، وقد يعني أن أولويات التنمية الآن تفوق في أهميتها حمل تسديد الديون مستقبلا، أو أن تكون نظرة الحكومة متفائلة حيال مستقبل النمو وقدرة الأجيال القادمة على سداد ديون اليوم إن تم توفير عوامل النمو من بنية تحتية ومشاريع تنمية وتعليم. وأخيرا، عامل التوقيت في إصدار الديون مهم جدا في لنجاحه في سداد عجز الميزانية المؤقت بأقل التكاليف.


===============
نظرية التساوي الريكاردية:
يقول الاقتصادي ديفيد ريكاردو بأن الناس يدركون بأن الحكومة التي تقترض الآن لتمول بعض المشاريع أو الصرف الحكومي، لا بد لها في المستقبل من أحد خيارين: إما أن تضطر لتخفيض النفقات بشكل كبير، أو ترفع الضرائب بشكل كبير لتتمكن من سداد ديون اليوم. وبما أن الناس ليسو أغبياء، فسيدركون هذا الأمر ويحسبون حسابه، ولن يتغير نمط استهلاكهم، سواء اقترضت الحكومة أم لم تقترض. 

الجمعة، 28 أغسطس 2015

تعليق الاقتصادي بول كولير حول الديمقراطية والتنمية

أثناء محاضرة في جامعة لندن للاقتصاد حول التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة والنامية، وجهت إحدى الحاضرات سؤالها للاقتصادي البريطاني (السير) بول كولير عما إذا كان تبني الديمقراطية شرطا لازما للتطور والنمو الاقتصادي في الدول النامية، وكان السؤال كما يبدو من صياغته من باب تأكيد المعلوم للحاضرين، والتغني بالديمقراطية الغربية كحل لمشاكل النمو في الدول البائسة على اختلاف خلفياتها وتركيبة سكانها. ولكن كان رد البروفيسور كولير صارما ومفاجئا للحضور: بالطبع لا!

ثم استطرد كولير قائلا: 
"دأب الغرب على التسويق للديمقراطية الحزبية والانتخابات على أنها القمة السامقة والطريقة المثلى لوصول الحكومات الرشيدة والشرعية  للسلطة. إلا أن هذه الآلية تؤدي إلى نتائج كارثية في المجتمعات المقسمة ابتداءا (قبليا أو عرقيا أو طائفيا أو ...). فالديمقراطية الحزبية في هكذا مجتمعات لن تزيدها إلا انقساما وفرقة، حيث تشكل كل مجموعة عرقية أو طائفية حزبا خاصا بها، وتتنافس مع المجموعات الأخرى على أساس هذه الهويات المحددة سلفا، فتتحول السردية السياسية إلى سردية قائمة على القمع الفكري وشيطنة الطرف المنافس، مما يعمق الفرقة والخلاف ويمزق الدولة. إن ما تحتاج إليه هذه المجتمعات في الحقيقة هو الهوية المشتركة، والهوية المشتركة حتما لن تخرج من رحم ديمقراطية حزبية قائمة على القمع الفكري. 

بالاضافة إلى ذلك، فإن الانتخابات في الديمقراطيات الحزبية، حتى هنا في الغرب، لا تنتج حكومات ذات شرعية مؤهلة للحكم. الوحيدون الذين يعتقدون بهذا الادعاء هم الفائزون في الانتخابات، والممولون لهم. في اعتقادي، الشرعية لا بد أن تكتسب على المدى الطويل من خلال الأداء والنتائج الملموسة التي يشعر بها المواطن العادي. "