الاثنين، 9 نوفمبر 2015

فضيحة سيارات فولكس واجن ومستقبل الديزل في أوروبا

تعليقات حول تداعيات فضيحة فولكس واجن على استهلاك الديزل في أوروبا

  • اعترفت شركة فولكس واجن للسيارات مؤخرا بتثبيت برنامج في السيارة يعطى قراءة مضللة لنسب الانبعاثات. 
  • لسنوات طويلة، ظلت أسعار الديزل كوقود للسيارات في أوروبا أقل من أسعار البنزين، وذلك بسبب فرض ضريبة أقل على وقود الديزل هناك. أي أن فرق السعر سببه تدخل سياسات الحكومات هناك. 
  • لهذا تزدهر مبيعات سيارات الديزل في أوروبا مقارنة بغيرها من مناطق العالم، إذ نجد أن مبيعات سيارات الديز ل في أوروبا تشكل 75% من مبيعات سيارات الديزل حول العالم.
  • كان الهدف من هذه السياسة هو تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، حيث تقل انبعاثاته من الديزل مقارنة بالبنزين بسبب ارتفاع كثافة الطاقة فيه مقارنة بالبنزين، وبالتالي يحتاج المحرك لحرق كمية أقل من الديزل لتوليد نفس كمية الطاقة في محركات البنزين. كما أن كفاءة محركات الديزل أعلى من نظيراتها محركات البنزين في عملية الاحتراق.
  • هذه الفوائد تقتصر على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ذو الآثار السلبية على الانحباس الحراري، لكن ما يغفل عنه الكثير هو أن هناك انبعاثات أخرى أشد خطرا على صحة الإنسان من ثاني أكسيد الكربون مثل أكاسيد النيتروجين NOx والتي ينفثها محرك الديزل بغزارة، وتبقى عالقة في الجو على ارتفاعات منخفضة فتؤثر مباشرة على الصحة ومستوى الرؤية. 
  • أكاسيد النيتروجين تسبب ضبابا تلوثيا كثيفا (Smog) يحيط بالمدن، حتى أن مدينة في قلب أوروبا مثل باريس التي تكثر فيها سيارات الديزل تعاني أحيانا من ضباب دخاني يشبه الضباب التلوثي في مدن الصين التي تعاني بشكل حقيقي من الأدخنة الملوثة في الجو. 
  • كما أن المدن الأوروبية الكبرى وهي معقل سيارات الديزل تعتبر أكثر تلوثا من نظيراتها في أمريكا التي يكثر فيها استخدام البنزين، وهو ما لم يكن في الحسبان يوم سنت دول أوروبا قوانينا تروج لاستخدام الديزل.
  • ولهذه الأسباب، فقد بدأ مؤخرا حراك حكومي في أوروبا للحد من استخدام الديزل وفرض ضرائب أعلى عليه، مما أدى إلى تباطؤ في نسب استهلاكه في الأعوام الأخيرة.
  • كالعادة، فإن القطاع الصناعي وبالأخص مصانع سيارات الديزل يحاول جاهدا تفادي مثل هذه القوانين التي تؤثر على أرباحه المعتمدة على الديزل المدعوم حكوميا، لكن فضيحة شركة فولكس واجن الأخيرة غيرت المعادلة. 
  • إذ بدأت ردة فعل حقيقة ضد تدليس مصنعي سيارات الديزل وفوائدها المزعومة في ضوء هذه الفضيحة
  • لذا يبدو أن استخدام الديزل في أوروبا بدأ رحلة الانحسار وقد يتجه الناس مباشرة إلى سيارات كهربائية أو هجينة إذا تم توفير شبكة لها، وهو ما تحاول بعد الدول الأروبية جاهدة تيسير سبله عن طريق الاستثمار في شبكات شحن السيارات كهربائيا وتوفير الحوافز المالية للمصنعين والمشترين.
  • كل هذه التطورات ستسهم في استمرار تباطؤ استهلاك مشتقات النفط في قطاع المواصلات في القارة العجوز

الاثنين، 19 أكتوبر 2015

السيارة الكهربائية في بلاد النفط

النرويج، ذلك البلد النفطي الملهم، والمتصالح مع دوره ومسؤوليته نحو تنمية مواطنيه والانتقال الهادئ بهم إلى المستقبل، دون تشنج أو تخوف من أي تقنية ممكن أن تقلل الاعتماد على نفطهم. بل على العكس، نجده يتبنى أشد الأنظمة للحد من نمو الطلب على النفط داخل حدوده واستغلال مصادر الطاقة المتجددة (والتي ينعم بوفرتها أيضا) كطاقة المياه لتعويض الفارق. 

ضريبة امتلاك السيارات التقليدية في النرويج تعد من بين الأعلى في العالم، فبالإضافة إلى ضريبة مبيعات مباشرة تبلغ 25% في قيمة السيارة، هناك أيضا ضريبة تسجيل (استمارة) تصل إلى 12000 دولار!! وقد يبدو هذا غريبا في بلد نفطي، على الأقل من وجهة نظرنا نحن، ولعلك ستفاجأ أكثر إن علمت كيف تسعى النرويج سعيا حثيثا لتسهيل امتلاك السيارات الكهربائية التي لا تعتمد على النفط ومشتقاته نهائيا مثل سيارة تسلا و نيسان ليف. 

كنسبة من اجمالي السيارات في النرويج، تعتبر نسبة امتلاك السيارات الكهربائية هناك الأعلى في العالم، حيث بلغت نسبة السيارات الكهربائية 22% من عدد السيارات المباعة في 2015. وإذا أراد المواطن النرويجي التخلص من الضرائب الهائلة على تملك السيارات، فما عليه سوى شراء سيارة كهربائية، ولن يضطر لدفع دولار (أو كورونا) واحدة كضرائب أو رسوم تسجيل. بل أفضل من هذا، سيكون معفي من كل رسوم مواقف السيارات ورسوم الطرق السريعة أو رسوم نقل سيارته فوق السفن والعبارات البحرية.

قرأت هذه الحقائق في تحقيق صحفي مفيد نشر في صحيفة نيويورك تايمز على هذا الرابط:


هناك عدة تعليقات حول هذه المعلومات: 
- دار نقاش مشوب بشيء من المزاح بين بعض الأصدقاء عن كيف ستشكل السيارات الكهربائية طامة كبرى على دولنا النفطية إن تم تبنيها بشكل واسع. سياسات النرويج في هذا المجال هي على النقيض تماما من نظرتنا القلقة تلك. فهي تسعى لتكون أول من يتبنى التقنية الجديدة دون الهرب والتخوف.
- صحيح أن النرويج تملك وفرة في الطاقة المائية مما يضمن لها توليد كهرباء رخيص، ويخفض الأثر البيئي الكلي للسيارات الكهربائية، ولكن هذا لا يعفي دولنا في الخليج من محاولة استثمار مصادر طاقة متجددة مثل الطاقة الشمسية، والعمل على تقليل تكاليفها
- الحوافز المالية والاقتصادية هي أهم ما يشكل سلوك المستهلك، وهذا ما نراه في التجربة النرويجية من خلال الضرائب العالية على السيارات التقليدية، والإعفاءات الضريبية على السيارات الكهربائية
- صحيح أن النفط هو مصدر دخلنا الأساسي، ولكن هذا يمثل حافزا إضافيا لتقليل الهدر والاستهلاك الداخلي المسرف، وليس العكس.

بقي أن أقول: هذا المقال القصير ليس دعاية للسيارات الكهربائية، ولست أنادي بأن علينا تبينها الآن. هو مجرد تسليط ضوء على دولة نفطية اختارت المضي بشراسة في اتجاه يخالف المفهوم السائد في البلاد النفطية الأخرى دون تردد أو تحفظ، وراهنت على التقدم التقني وأعدت نفسها ومواطنيها لذلك، وهذا في حد ذاته مثير للإعجاب. 

الاثنين، 31 أغسطس 2015

الاقتراض مقابل استنزاف الاحتياطي.. أيهما الأجدى؟

لماذا نلجأ للاقتراض الداخلي عبر إصدار سندات حكومية ونحن نملك احتياطيا كبيرا من النقد الأجنبي؟

عندما أعلنت المملكة عن إصدار سندات حكومية (ديون) لعدد من المؤسسات السيادية العامة والبنوك المحلية، كانت هناك عدة تساؤلات عما إذا كان هذا الإجراء (الاقتراض من الداخل) أفضل وأجدى من استمرار السحب من الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية وحده. محور التحفظ على سياسة الاقتراض هي: لماذا نقترض الآن ونضطر إلى سداد الدين مستقبلا مع فوائده، ونحن لدينا احتياطي ممكن أن نسحب منه بدون فوائد؟ 

بداية، الاقتراض ليس مرغوبا في حد ذاته، لكن هناك حالات تلجأ فيها الحكومات للاقتراض لسداد عجز في الميزانية لأي سبب من الأسباب، سواء كان عارضا قصير المدى أو طويل المدى. 

كما ينبغي أن ندرك أن القرارات التي تتخذها الحكومات الآن فيما يتعلق بالسياسة النقدية أو السياسة المالية حتما ستؤثر على الخيارات المتاحة أمامها في المستقبل، أي أن كل قرار الآن له تبعات في المستقبل، وعلى هذا ينبني الجواب على التساؤل أعلاه. 

لماذا تحرص الدول على الحفاظ على كمية جيدة من الاحتياطي الأجنبي؟ 

الاحتياطي الأجنبي له دور فعال في مجالات لا تستطيع الديون وحدها التعويض عنها. من ذلك أنه:
  • وسيلة لسداد المستحقات الدولية من فواتير الواردات وخدمة الديون السيادية والتجارية، سواء استخدم الاحتياطي الأجنبي مباشرة، أو تم تسييل بعض الاستثمارات في سندات الخزانة الأمريكية للحصول على النقد.
  • وسيلة لتأكيد الثقة في ثبات العملة المحلية وسعر صرفها عالميا، وتقليل احتمال هجمات المضاربين على العملة، والتدخل السريع في أسواق العملات في حال التذبذب في سعر الصرف بشكل كبير
  • وسيلة لامتصاص الصدمات الاقتصادية والمالية التي قد تفاجئ الحكومة (Buffer)
طبعا، هناك حكومات تلجأ للاحتياطي لتمويل عجز الميزانية أو لتمويل مشاريع وبرامج حكومية معينة، ولا يوجد ما يمنعها من ذلك، لكن أردت فقط توضيح أن الدور الأساسي للاحتياطي الأجنبي يتجاوز مجرد تمويل العجز، بل له مزايا معينة لا يمكن لوسيلة تمويل أخرى القيام بها.

والآن نناقش الاقتراض وبيع السندات الحكومية:

  • إصدار السندات (الاقتراض) الآن بينما الاحتياطي الإجمالي (من ودائع واحتياطي حكومي أو ودائع أخرى) لازال كبيرا يعني أن سعر الفائدة على القروض ستكون قليلة، بعكس لو استنزفنا الاحتياطي أولا ثم اتجهنا إلى سوق الإقراض ونحن لا نملك الضمانات الكافية على سلامة الاقتصاد، فستكون تكلفة الاقتراض عندها عالية جدا. 
  • ثقة السوق في موقف الحكومة المالي (بسبب الاحتياطي الكبير) يجعل في مقدورها إصدار سندات الدين بالعملة المحلية (الريال مثلا)، لأن الثقة في ثبات الريال مرتبطة بالاحتياطي
    • اصدار الدين بالريال له فوائد، أهمها أن الحكومة ستتمكن دائما من السداد، حتى لو تآكلت القدرة الشرائية للريال في المستقبل.
    • لو اهتزت الثقة في قيمة الريال بسبب استنزاف الاحتياطي، فلن يقبل به الدائنون، وستضطر الحكومة لإصدار سندات دين بالعملة الأجنبية، مما لا يتيح للحكومة المرونة في كيفية سداد الدين مستقبلا
  •  إصدار السندات هي وسيلة من وسائل السياسة النقدية، حيث تتيح السندات القدرة على سحب سيولة من السوق والبنوك إن أرادت الحكومة ذلك حسب سياستها. طبعا سحب السيولة من الاقتصاد فيه مزاحمة لباقي المقترضين من مواطنين وشركات، وهذا يرفع سعر الفائدة على الجميع، وقد لا يكون في مصلحة البلد إن كان الهدف تحفيز الاقتصاد.
  • بيع السندات هي طريقة لزيادة دخل الحكومة وفي نفس الوقت توفير عائد استثماري لمن يحملون هذه السندات. وبهذا تكون وسيلة جيدة لتسعير الديون المختلفة في البلد، بما فيها ديون الشركات عن طريق توفير أسعار فائدة معيارية (benchmark)

ختاما

إصدار الديون ليس حلا مثاليا، لكن توقيت إصدارها الآن أفضل من استنزاف الاحتياطي بالكامل ومن ثم اللجوء للاقتراض، للأسباب المذكورة أعلاه. 
 بالطبع، لا تستطيع أي حكومة الاستمرار في إصدار الديون بشكل دائم، حيث لابد من سداد هذه الديون من فوائدها في وقت ما. اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن يستمر النمو الاقتصادي بوتيرة أسرع من معدل الفائدة للأبد، مما يسمح للاقتصاد بامتصاص المزيد من سندات الدين، وهذا شبه محال. 
خيار الديون هو خيار يعتمد على توجه الحكومة ونظرتها للمستقبل، وقد يعني أن أولويات التنمية الآن تفوق في أهميتها حمل تسديد الديون مستقبلا، أو أن تكون نظرة الحكومة متفائلة حيال مستقبل النمو وقدرة الأجيال القادمة على سداد ديون اليوم إن تم توفير عوامل النمو من بنية تحتية ومشاريع تنمية وتعليم. وأخيرا، عامل التوقيت في إصدار الديون مهم جدا في لنجاحه في سداد عجز الميزانية المؤقت بأقل التكاليف.


===============
نظرية التساوي الريكاردية:
يقول الاقتصادي ديفيد ريكاردو بأن الناس يدركون بأن الحكومة التي تقترض الآن لتمول بعض المشاريع أو الصرف الحكومي، لا بد لها في المستقبل من أحد خيارين: إما أن تضطر لتخفيض النفقات بشكل كبير، أو ترفع الضرائب بشكل كبير لتتمكن من سداد ديون اليوم. وبما أن الناس ليسو أغبياء، فسيدركون هذا الأمر ويحسبون حسابه، ولن يتغير نمط استهلاكهم، سواء اقترضت الحكومة أم لم تقترض. 

الجمعة، 28 أغسطس 2015

تعليق الاقتصادي بول كولير حول الديمقراطية والتنمية

أثناء محاضرة في جامعة لندن للاقتصاد حول التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة والنامية، وجهت إحدى الحاضرات سؤالها للاقتصادي البريطاني (السير) بول كولير عما إذا كان تبني الديمقراطية شرطا لازما للتطور والنمو الاقتصادي في الدول النامية، وكان السؤال كما يبدو من صياغته من باب تأكيد المعلوم للحاضرين، والتغني بالديمقراطية الغربية كحل لمشاكل النمو في الدول البائسة على اختلاف خلفياتها وتركيبة سكانها. ولكن كان رد البروفيسور كولير صارما ومفاجئا للحضور: بالطبع لا!

ثم استطرد كولير قائلا: 
"دأب الغرب على التسويق للديمقراطية الحزبية والانتخابات على أنها القمة السامقة والطريقة المثلى لوصول الحكومات الرشيدة والشرعية  للسلطة. إلا أن هذه الآلية تؤدي إلى نتائج كارثية في المجتمعات المقسمة ابتداءا (قبليا أو عرقيا أو طائفيا أو ...). فالديمقراطية الحزبية في هكذا مجتمعات لن تزيدها إلا انقساما وفرقة، حيث تشكل كل مجموعة عرقية أو طائفية حزبا خاصا بها، وتتنافس مع المجموعات الأخرى على أساس هذه الهويات المحددة سلفا، فتتحول السردية السياسية إلى سردية قائمة على القمع الفكري وشيطنة الطرف المنافس، مما يعمق الفرقة والخلاف ويمزق الدولة. إن ما تحتاج إليه هذه المجتمعات في الحقيقة هو الهوية المشتركة، والهوية المشتركة حتما لن تخرج من رحم ديمقراطية حزبية قائمة على القمع الفكري. 

بالاضافة إلى ذلك، فإن الانتخابات في الديمقراطيات الحزبية، حتى هنا في الغرب، لا تنتج حكومات ذات شرعية مؤهلة للحكم. الوحيدون الذين يعتقدون بهذا الادعاء هم الفائزون في الانتخابات، والممولون لهم. في اعتقادي، الشرعية لا بد أن تكتسب على المدى الطويل من خلال الأداء والنتائج الملموسة التي يشعر بها المواطن العادي. "

الخميس، 5 مارس 2015

رأس المال في القرن الحادي والعشرين ونظرة على الحالة السعودية

قراءة في كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين 

(وتعليقات جانبية حول السعودية)

توما (توماس) بيكيتي

هذا الكتاب الضخم والذي نشر بالفرنسية أولا عام 2013 ثم بالإنجليزية ولغات أخرى العام الماضي قال عنه كبار الاقتصاديين مثل كروغمان ولاري سمرز وغيرهم بأنه قد يكون أهم كتاب اقتصادي نشر خلال العقد الماضي، إن لم يكن الأهم في آخر خمس وعشرين سنة. الكتاب أثار ضجة في أوساط الاقتصاديين، ما لبثت أن امتدت آثارها لشرائح أوسع من القراء والهتمين، ونشرت مئات المقالات مناقشة ومحللة لأبرز ما جاء في الكتاب. ولا يزال أهل الاختصاص منقسمين بين مؤيد ومعارض ومتحفظ على نظرية هذا الاقتصادي الفرنسي الذي صعد للنجومية، توما بيكيتي.

خلاصة الكتاب:

تكدس الثروات في أيدي القلة بات ظاهرة عالمية يزداد تفاقمها مع الوقت، وتنذر بنتائج وخيمة إن لم يتم تداركها.

بالنسبة للكاتب، فإن تناقض الرأسمالية الأساسي هو أن العائد على رأس المال (يرمز له بالحرف r) دائما يفوق معدل النمو الاقتصادي العام (g)
ويلخصها بالعلاقة: r > g

هذه الحقيقة كانت جلية للعيان في القرنين الثامن والتاسع عشر مع سيادة طبقة الإقطاعيين والطبقات المخملية، حيث كان يكفي أن يرث أحدهم من أسرته أو تتزوج احداهن بأحد أصحاب الأملاك، ثم تنتفي الحاجة للعمل بعد ذلك، حيث تكفي عوائد الأصول الثابتة (من إجارت ومكوس وغيرها) للصرف والإنفاق ببذخ، بينما تكاد تنعدم حظوظ من ولد ضمن طبقة المزارعين أو العمال في الثراء أو الصعود الاجتماعي، بل يغلب على حاله أن يولد فقيرا ويموت فقيرا. حقيقة رأس المال هذه التي يقررها بيكيتي توارت وانحسرت بعض الشيء في أوروبا لأسباب تاريخية بدأت مع الثورة الفرنسية وانتهت بالكساد العظيم في نهاية عشرينات القرن الماضي وما تبعها من الحروب العالمية. ولكن ظاهرة ازدياد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا بدأت تطل برأسها من جديد وبتسارع مقلق مؤخرا.

الهزات العنيفة التي أحدثتها الحربين العالميتين وما أسفر عنها من تدمير ومن ثم إعادة توزيع لرأس المال المتراكم أوهم الكثير بأن آفة الرأسمالية قد تم التغلب عليها، وأن تراكم الثروات في أيدي القلة على حساب الأكثرية قد ولى دون رجعة، حيث أعادت الحروب والدمار الكثير من سكان أوروبا للمربع الأول، وبدا ممكنا لأفواج الفقراء أن يلتحقوا بالعمل الصناعي أو الحكومي والحصول على جزء من كعكة الرأسمالية على شكل امتلاك منزل أو شقة وسيارة أو مزرعة صغيرة، أو حتى الوصول للثراء إن تضافر العمل الدؤوب مع التعليم وشيء من التوفيق، ولم يعد شرطا أن يولد المرء في أسرة مخملية ثرية ليحقق أحلامه في الثراء والصعود في طبقات المجتمع. كانت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينات في أوروبا وفرنسا تحديدا تسمى بالثلاثين العظيمة أو الرائعة Les Trente Glorieuses نظرا للنمو الاقتصادي القوي حينها والذي بلغ في المتوسط 5% سنويا في أوروبا ولإحساس الناس بزوال عصر الطبقية والأرستقراطية.
في الواقع لم تكن تلك الفترة سوى الاستثناء، وسرعان ما عادت قوى الرأسمالية تعصف من جديد وأفرزت معها طبقية رأسمالية بأسماء مختلفة، وهي حقيقة باتت تتضح معالمها أكثر منذ الثمانينات وحتى الآن. كل الدلائل تشير إلى أن معدل النمو الاقتصادي العام في الدول الغنية (وأوروبا تحديدا) لن يتجاوز 1% إلى 1,5% في أحسن الأحوال خلال القرن القادم، وهذه النتيجة سبق أن أشار إليها أكثر من اقتصادي في السابق، أبرزهم الاقتصادي الإنجليزي ستيفن كنج في كتاب When the Money Runs Out. أسباب ذلك عديدة من بينها التباطؤ السكاني الكبير في هذه الدول وأسباب أخرى ليس هذا مجال سردها، كما أن جزءا من النمو السريع في حقبة (الثلاثين الرائعة) كان نتيجة لعملية اعمار ما بعد الحرب والإنفاق الحكومي الكبير على البرامج الاجتماعية، فهو نمو استثنائي خلقته ظروف يصعب تكرارها في المستقبل.
التباطؤ الاقتصادي المتوقع مستقبلا سيزيد من تفاقم الخلل في العلاقة r > g مما يعني المزيد من اللامساواة في توزيع الثروة بين القلة ذات النفوذ والأغلبية التي تعيش الكفاف.
العائد العالمي على رأس المال يستأنف مساره التصاعدي (أحمر غامق) بينما ينخفض معدل نمو الاقتصاد العالمي (الفاتح) وتزداد الفجوة

قوى الرأسمالية تسير حثيثا نحو تعميق فوارق الدخل والثروة بين الطبقات

الرسالة القاتمة في الكتاب هي كما أسلفت أن التحسن النسبي في مؤشرات اللامساواة الذي شهده العالم منذ خمسينات القرن الماضي وحتى منتصف السبعينات لم يكن سوى حالة عابرة كونتها ظروف الحربين العالميتين وما خلفته من دمار أصاب الكثير من الثروات وأعاد توزيعها بين الطبقات. إلا أن تلك كانت حالة شاذة لها ظروفها، وسرعان ما استعادت قوى الرأسمالية الطاغية عافيتها ونحن الآن مقبلون على مرحلة تزداد معها فوارق الثروات بين طبقات المجتمعات كافة، وقد تستمر حتى تضج الجموع المغلوبة ويدخل العالم في موجات عنف واضطرابات تستمر أجيالا حتى تعود الأمور إلى نصابها. 

ومما يزيد الطين بلة هو أن التضخم في أسعار السلع الذي هو آفة الاقتصاد الحديث لا يؤثر كثيرا على المتحكمين في رأس المال، بل يكاد يتركز ضرره ضمن الطبقات المتوسطة والفقيرة التي لا تملك إلا رواتبها، فتتآكل مدخراتها وتضعف قوتها الشرائية، بينما يكتفي صاحب رأس المال بزيادة الأسعار أو الإيجارات على المستهلك. وهذا يعني ازدياد أهمية الثروات المتراكمة والتي تتوارثها الأسر الغنية، بينما سينحسر دور الإنجاز الشخصي في تشكيل الثروة، وهذا يُضعف رابط العقد الاجتماعي في الدول، وينسف الوعود البراقة بأن لكل مجتهد نصيب من كعكة الثروة. 

تركيبة طبقة أغنى 1% في المجتمع أو حتى ال 0,1% طرأ عليها بعض التغيير، فبعد أن كان جلها من أصحاب الأملاك من الإقطاعيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، أصحبت الآن مزيجا بين أصحاب الأملاك وبين كبار المدراء التنفيذيين بالإضافة لبعض نجوم السينما والفن والرياضة، حيث لم يعد مستغربا أن يحصل كبار مسؤولي الشركات على رواتب وحوافز بعشرات الملايين في العام الواحد دون أن يجد حملة الأسهم حرجا في ذلك. في رأي الكاتب، فإن العقلية الجمعية في المجتمعات الحديثة صارت أكثر تقبلا وتعاطفا مع الأثرياء من هذا النوع مقارنة بالصورة النمطية بالثري الوارث الذي ولد "وفي فمه ملعقة من ذهب"، حيت تروج وسائل الإعلام وكتب الإدارة لقصص نجاح هؤلاء المدراء لإضفاء نوع من الشرعية على رواتبهم الهائلة، ولتحاول اقناع الناس بأن هذه الثروات قد استحقها هؤلاء فعلا نتيجة جدارتهم ومهارتهم في إدارة الشركات. في الواقع، فإن كل من له اطلاع على واقع سير الأعمال يدرك أن هذه النظرة فيها الكثير من المثالية والسطحية، فليس من المعقول أن انتاجية المدير التنفيذي في شركة كبرى تفوق بمئة ضعف انتاجية المهندس في إدارة تطوير المنتجات مثلا، ولكن الواقع الفارق بين راتبيهما قد يوحي بذلك.
نصيب أغنى 10% من السكان في مجموع ثروة البلاد في أمريكا، تكدس الثروة في يد القلة واضح منذ منتصف الثمانينات

المال يولد المال

ولكن، ألا يستطيع أي انسان أن يحصل على جزء من العائد المرتفع على رأس المال (r) عن طريق مشاركته المباشرة في أسواق الأسهم والأصول المالية مثلا، حتى وإن كان يعتاش على راتبه؟ هنا يوضح الكاتب بأن المحافظ المالية قليلة رأس المال تكون عرضة لهزات السوق الدائمة واحتمال خسارتها كبير، خصوصا إذا حسبنا تكلفة إدارتها ورسوم عمليات البيع والشراء وغيرها. في المقابل، فإن المحافظ الاستثمارية الكبيرة (عشرات الملايين وأكثر) تُدر عائدا أفضل بكثير من متوسط السوق، حيث يُمَكّنها حجم أصولها الضخم من تنويع الأدوات الاستثمارية وتقليل المخاطر بشكل كبير، كما أن المحافظ المليونية أو المليارية قادرة على تعيين أفضل المدراء الماليين والحصول على معلومات سريعة ودقيقة غير متوفرة لصغار المستثمرين. الكاتب هنا يعرض مقارنة لأداء أوقاف الجامعات الكبرى في أمريكا، والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، بالإضافة لأداء الصناديق السيادية للنرويج وأبوظبي، حيث تحقق هذه الأوقاف والصناديق عوائد بين 6 إلى 10% سنويا، أي أعلى بكثير من عوائد أي مؤشر مستقل بعينه، وحتما أعلى من النمو الاقتصادي العام. والخلاصة هي أن أصحاب الثروة الكبيرة ابتداء أقدر على تنميتها من غيرهم، مما يخلق حائلا بين الطبقات الثرية وبين الطامحين من أهل الطبقات الدنيا.
العائد على استثمارات أوقاف الجامعات الغنية في أمريكا (يزداد العائد مع زيادة حجم الأصول)

دور الضرائب في تقليص الفجوة:

يتسلسل الكاتب في بناء وجهة نظره حتى يصل لمقترح قد يحد من آفات الرأسمالية وسيلها الهادر الذي يكدس الثروات في أيدي القلة بنسب متسارعة. الحل يتمحور حول فرض ضرائب متصاعدة على الطبقات الثرية، ويفضَّل أن تكون هذه الضريبة عالمية، يعنى أن صاحب الثروة لن يستطيع الهرب بأمواله واستثماراته لبد آمن ضريبيا كجزر الكاريبي مثلا، بل إن الضريبة المقترحة لابد من تنسيق تحصيلها عالميا بين الدول. الجيد في هذا المقترح هو أن نسبة الضريبة (إن تم فرضها بصرامة) قد لا تزيد على 1% على مجموع الثروات (بالإضافة لضريبة الدخل المعمول بها أصلا في كل بلد على حدة). فباستثناء ضريبة العقارات، تكاد لا توجد ضرائب تذكر حاليا على أشكال الثروات المتراكمة سواء أرصدة بنوك أو أصول شركات وأسهم أو صناديق عائلية. نسبة ضريبة على الثروات المتراكمة كالتي يقترحها الكاتب -وهي أقل من نسبة زكاة المال في الإسلام- كفيلة من وجهة نظره بإعادة التوازن وتحقيق شيء من العدالة في توزيع الثروات. أما الجانب الصعب في هذا المقترح هو أن حلا كهذا يتطلب اجماعا أمميا عالميا، وهو أمر صعب من وجهين، الأول ضعف الثقة بين الدول غنيها وفقيرها وشبه استحالة إجماعهم على قرار كهذا، والأمر الثاني هو أن قوى المال الخفية التي تُسيِّر اللعبة في الظل لديها من المصالح والنفوذ ما يجعل أي قرار يمس بها صعب المنال إن لم يكن مستحيلا ما لم يجد العالم وسيلة لتفكيك نفوذ أرباب المال المتغلغل في مفاصل اللاقتصاد العالمي.

ماذا عن دور التعليم في الترقي المجتمعي والمالي للأفراد؟

الحل لخلل توزيع الثروة لا ينحصر فقط في نظام الضرائب أو فرض الحد الأدنى للأجور، لكن لب السألة ترتكز على التعليم ورفع مستوى أفراد الشعب كافة، وتمكين أبناء الطبقات الدنيا من تضييق فجوة الدخل من خلال منافسة الشريفة في مجال التعليم والمهارة. ولكن هل ميدان المنافسة من خلال التعليم والتأهيل في منأى عن الطبقية هو الآخر؟  الآفة هي أن مجال التعليم يعاني أيضا من آثار استئثار القلة بالثروة، حيث أن نظام التعليم الممتاز ليس متاحا للكل، بل يكاد يكون محصورا لأصحاب الدخل العالي. فالمدارس الخاصة غالية الثمن والجامعات الراقية في العالم (هارفارد، ييل، برينستون...) معظم طلابها ينتمون لشريحة أغنى 2% من السكان البلد كمتوسط، بينما لا تكاد ترى بينهم أبناء أصحاب الدخل المنخفض في الغالب، هذا إن تمكنوا من الحصول على تعليم عام جيد في المدارس الحكومية ابتداء. هذه الفوارق في جودة التأهيل العلمي بالإضافة إلى ما توفره الجامعات الراقية من صلات وعلاقات مع صناع القرار مقارنة بمدارس وجامعات الطبقات المتواضعة، تكرس على المدى البعيد هذا التمايز بين الطبقات وتعمق الفجوة بين أصحاب الثروات وغيرهم.

الحلول المقترحة في الكتاب:

رغم المصاعب، فإن الكاتب ينادي بالاستثمار في التعليم وفي التقنيات المنسجمة مع البيئة، مع فرض ضريبة بسيطة لكن تصاعدية على إجمالي رأس المال في العالم، وليس عائد رأس المال وحسب. ضريبة كهذه في حدود 0,5% أو أقل لن تؤثر على سير الأعمال ولكنها ستُفرض على قاعدة مالية كبيرة ويعاد توزيعها على طبقات المجتمع من خلال برامج حكومية مفيدة.
وهنا ينادي الكاتب بأن الديمقراطية السياسية هي الحل الوحيد الذي يملك إنقاذ العالم، ويدعو إلى وحدة أوروبية حول الضريبة وسياسات الإنفاق والمال حيث تصبح أوروبا كأنها مجموعة ولايات كالولايات المتحدة الأمريكية، تدير أمورها المحلية بنفسها، لكن تحكمها سياسات فيديرالية عُليا لا تحيد عنها. اقتراح الكاتب يدعو بالضرورة إلى شيء مماثل على مستوى العالم في شكل حكومة عالمية مع نفوذ لفرض الضرائب والمكوس الملاحقة القضائية وتدقيق الحسابات.


  • كمية البيانات التاريخية هائلة، والكتاب قد يبدو جافا بسبب كثرة الرسومات البيانية، ولكن الكاتب حرص على أن لا يتجاوز ما هو ضروري لعرض فكرته. الكاتب وفريق بحثه أمضوا قرابة عشر سنوات من التدقيق في وثائق الضريبة الأوروبية والفرنسية خصيصا ليرسموا تصورا واضحا حول مسار تكدس الثروات وتوزيعها بين الطبقات. 
  • الكتاب يحوي جهدا بحثيا رائعا، والنتائج التي يعرضها قد تصل بالمؤلف لنيل جائزة نوبل في مجاله مستقبلا.
  • أهمية الكتاب تكمن في إعادة تسليطه الضوء على موضوع اللامساواة وسوء توزيع الثروات في العالم وضمن المجتمعات. قد يبدو هذا الموضوع حاضرا في أذهان الكثير، لكن الكتابات المتخصصة الاقتصادية قد تناست أو أغفلت هذا الجانب على مدى العقود الماضية، حيث ما فتئ الاقتصاديون بترديد أن مسألة توزيع الكعكة والحكم على (عدالة) توزيع معين دون غيره هي خارج اختصاصات الاقتصاد لأنها داخلة ضمن الأسئلة الأخلاقية وأحكام والصواب والخطأ، ولا تنسجم مع "الحياد العلمي" للاقتصاد كعلم تجريبي. بيكيتي بكتابه هذا أعاد هذا السؤال إلى مركز الاهتمام، خصوصا وأن البيانات الهائلة التي جمعها غير قابلة للأنكار وتؤكد على وجود خلل ما. بيكيتي يذهب لأبعد من هذا بتقرير أن هذا الخلل يؤدي بالضرورة لمشاكل اقتصادية عامة، يتعدى ضررها مجرد الجدل الأخلاقي.