الاثنين، 19 مايو 2014

أثر رفع الحد الأدنى للأجور على مستوى البطالة.. إعادة نظر

دار مؤخرا نقاش على تويتر حول أثر رفع الحد الأدنى للأجور في بلد ما على معدلات البطالة. الرأي الذي تبناه صديقي هو أن النتيجة لرفع الحد الأدنى للأجور سيؤدي (غالبا) لزيادة البطالة بين العاملين الأقل مهارة. صديقي يرى أن هناك شبه إجماع بين الاقتصاديين على حتمية هذه النتيجة، أي أن المسألة محسومة وبديهية. لكن هل القول بحتمية هذه النتيجة صحيح سواء نظريا أو من خلال الأرقام على أرض الواقع؟

في البدء يجب أن لا نغفل أن الظواهر الاقتصادية هي فرع من الظواهر الاجتماعية وبالتالي تتخللها عوامل كثيرة لا تسهل الاحاطة بها عن طريق النماذج الرياضية المبسطة.. مما يعني أن ما تتنبأ به النماذج نادرا ما يوافق الواقع تماما، بل حتى قد يخالفه في الاتجاه أحيانا، خصوصا إن كانت النماذج مغرقة في المثالية والبساطة. 

والآن لنرجع للسؤال: هل زيادة الحد الأدنى للأجور تؤدي (حتما أو غالبا) لزيادة نسبة البطالة؟ 

الذين يجيبون بنعم، هم غالبا يستندون الى نموذج منطقي لكنه مبسط جدا. النموذج المنطقي المذكور يفترض بأن سوق العمل هو سوق تنافسي بحت، وهذا السوق له نقطة توازن تتساوى عندها كمية المعروض من الأيدي العاملة مع ما تطلبه الشركات والمؤسسات، وأن الكل في هذا السوق التنافسي يتصرف بأقصى درجات الكفاءة وبالتالي ويحصل العامل على أجر يساوي تماما قيمة عمله، فلا أحد في هذا السوق المثالي يأخذ أكثر من حقه ولو بهللة، وأرباح الشركات تساوي صفرا، حيث أن القيمة التى تخلقها عوامل الانتاج من موظفين ومعدات تساوي تماما ما تصرفه الشركة من رواتب لهؤلاء الموظفين وتكلفة المعدات. في هذا العالم المثالي، فإن المنطق يحتم أن أي زيادة للحد الأدنى من الأجور فوق نقطة التوازن سيؤدي لخلل، فإذا كانت مقدرة العامل الانتاجية تساوي 10 ريال وأجبرت الدولة المؤسسة أن تدفع له 15 ريال، فإن المؤسسة التنافسية لن تملك إلا أن تتخلى عنه، وإلا خسرت المال. 

 النموذج المبسط يبين الأثر السلبي لرفع الحد الأدنى للأجور على سوق العمل


هذا الرأي ليس جديدا، بل طرحه الاقتصاديون منذ الستينات والسبعينات الميلادية، لكن ولحسن الحظ، فإن الدراسات حول هذا الموضوع والأساليب الاقتصادية والإحصائية منذ ذلك الحين تطورت بشكل كبير وصارت الأبحاث بالمئات.

ظلت النظرة السائدة هي أن زيادة الحد الأدنى للأجور لها أثر سلبي على سوق العمل، حتى جاءت أبرز الدراسات التى خالفت النتيجة المنطقية المبسطة أعلاه هي دراسة Card and Kruger 1994 والتي اعتمدت على ما يعرف بالتجربة الطبيعية لقرار حصل في ولاية نيوجيرسي لرفع الحد الأدنى للأجور ومقارنة النتائج مع ولاية مجاورة تتشابه خصائصها الاقتصادية ولكن لم يطلها القرار نفسه، وتم مسح عينة تفوق 400 مطعم للوجبات السريعة معظم العاملين فيه ممن يتقاضون الحد الأدنى للأجور، واستخلصت الدراسة أنه لا يوجد أثر واضح لارتفاع نسبة البطالة بين هؤلاء نتيجة قرار رفع أجورهم. هذه الدراسة أحدثت هزة في أوساط الاقتصاديين ,وأثارت جدلا خصوصا بين من كانوا يسلمون بأن أي تدخل كهذا في آليات السوق سيكون أثره سلبيا بلا جدال. 

الدراسات توالت بعد ذلك، كل يخرج بنتيجة بين مؤيد ومعارض، ولكن بدا ظاهرا للكل أنه لا توجد نتيجة حاسمة تقول قطعا بأن رفع الحد الأدنى للأجور يؤدي لزيادة البطالة، أو أن هذا الإجراء يؤثر سلباً على الاقتصاد كما يشيع المتطرفون من أنصار حرية السوق. ومنذ عام 2000 تقريبا صارت معظم الدراسات في هذا المجال تبحث عن تعليلات وتأويلات لحقيقة أن البيانات لا تدل على الأثر السلبي الذي يتنبأ به النموذج المبسط، وتقترح قنوات اقتصادية وسلوكية تفسر هذا الاختلاف بين النظرية الواقع. 

الإحاطة بنتائج هذا الدراسات وتلخيصها ليس بالأمر الهين نظرا لاختلاف ظروف كل دراسة من حيث المكان أو المدة الزمنية أو طبيعة البيانات المتوفرة. هناك ما يعرف بال meta analysis وهي دراسات احصائية دورها تلخيص مجموعة كبيرة من الدراسات المتفرقة، وتلجأ لأساليب رياضية دقيقة لتستخلص نتيجة دراسات مختلفة الأساليب. احدى هذه الدراسات التلخيصية كانت ل Doucouliagos and Stanley 2008 وجمعت بين 64 دراسة مستقلة حول أثر رفع الحد الأدنى للأجور في أمريكا على البطالة في بين العمال منخفضي المهارة من مراهقين وطبقات فقيرة. النتيجة كانت أن الأثر، إما لا وجود له، أو أنه قد يكون سلبيا في أحيان معدودة ولكن بنسبة ضئيلة يمكن تجاهلها احصائيا. وهي نفس النتيجة التي وصل إليها 2000 Paul Wolfson and Dale Belman في دراسة أخرى تلخص 27 بحثا مستقلا حول نفس السؤال.

معظم التوقعات الدقيقة تتركز عند الصفر، أي أن الأثر لا يذكر
إذا كيف يمكن الجمع بين النظرية المبسطة أعلاه وما وجده الباحثون على أرض الواقع؟ بداية لابد من التذكير بأن النموذج المبسط لم يعد هو المقياس الوحيد لفهم اقتصاديات سوق العمل، فقد تطورت النظريات والأساليب وصار السائد اعتماد نظريات تراعي أن الموظف يمكن تحفيزه عن طريق رفع راتبه والاستفادة من زيادة انتاجيته ، بالإضافة لنظريات تقول أن رفع الرواتب يساهم في استقرار الموظف والشركة ويجعل الموظف أكثر حرصا على تطوير نفسه وتحسين كفاءته، وفي الوقت نفسه يقلل التسرب (الاستقالات) من الشركة مما يوفر على الشركة تكاليف البحث عن موظف بديل وتدريبه وكسب ولائه، أي أن من مصلحة الشركة أحيانا رفع الرواتب فوق نقطة التوازن الافتراضية في النموذج المبسط أعلاه- كما في نموذج Shapiro-Stiglitz، وهي بهذا تعظم أرباحها وتنفع الاقتصاد ككل. وهذا أمر نراه عيانا في الشركات الكبرى في السعودية مثلا، خصوصا عند أولئك الذين يعملون في المهن اليدوية الشاقة.

كما قامت دراسات توضح الأثر الإيجابي لرفع الحد الأدنى للأجور وذلك بأن يتحسن استهلاك الطبقة الفقيرة للسلع والخدمات، وهذا ما تفطن له هينري فورد في قبل مئة عام عندما رفع أجور عمال مصانعه إلى الضعف من دولارين ونصف إلى خمسة دولارات، فعزز ولاء موظفيه وخلق طبقة وسطى قادرة على شراء سياراته آنذاك، فارتفعت أرباحه ككل رغم مضاعفته الصرف على الأجور. كما تبين الدراسات أن الشركات تسعى غالبا لرفع كفاءة موظفيها لتتناسب مع رواتبهم الجديدة، فتحرص على تطويرهم أو تطور أساليب العمل في الشركة لتزيد الإنتاجية وبالتالي لا تتأثر كثيرا بعبء زيادة أجور موظفيها. 

أما عن السؤال الذي يتكرر بأن رفع الحد الأدنى للأجور سيؤدي إلى غلاء عام في أسعار السلع، فنذكر هنا بأن الزيادة تطال فقط فئة محدودة وليست كل قطاعات الموظفين، ومع ذلك قامت دراسات في هذا الشأن احداها للباحثة 2008 Sara Lemos التي لخصت قرابة 30 دراسة مستقلة حول أثر رفع الحد الأدنى للأجور على مستوى الأسعار في أمريكا، وكانت النتيجة أن رفع الأجور بنسبة 10% يؤدي لزيادة في أسعار المواد الغذائية بنسبة لا تتجاوز 4%، أما مستوى الأسعار الكلي فلا يرتفع بأكثر من 0.4%. أي أنه مع وجود الزيادة في الأسعار، إلا أن المنفعة الكلية تفوق الضرر المترتب على الزيادة. 

كاريكاتير يعكس النظرة السائدة بأن رفع الأجور لا يفيد لأنه يرفع الأسعار


وطبعا قد يقول قائل بأن الشركات التي تجبرها الدولة برفع الحد الأدنى للأجور قد لا تفصل موظفيها صراحة، بل قد تقلل ساعات عملهم أو تقلل الصرف على الدورات التدريبية أو المزايا غير المادية، وهذا قد يصح في حالات إلا أن الدراسات الميدانية أظهرت أن لا دليل ملموس على انتشار مثل هذه السلوكيات بين الشركات. 

وختاما، يمكن أن يقول البعض بأن الدراسات التي ذكرت أعلاه قد يشوبها ما يشوب غيرها من علل، وربما أن ما ينطبق على أمريكا قد لا ينطبق على غيرها، وهذا قول معتبر، لكن ما وددت ايضاحه في هذا المقام هو خطأ التسليم بتنبؤات النماذج المبسطة جدا، وبناء القرارات عليها دون النظر في نماذج أخرى أحدث وأكثر محاكاة لواقع الناس وطبائع البشر وسلوك الشركات، ودون التحقق من البيانات الواقعية على الأرض. وهذا الحذر ينبغي الأخذ به عموما عند الحكم وابداء الرأي في معظم الظواهر الاقتصادية. 

مصادر:

Card, David and Alan Krueger. 1994. "Minimum Wages and Employment: A Case Study of the Fast-Food Industry in New Jersey and Pennsylvania." American Economic Review, vol. 48, no. 4, pp. 772-793. 

Doucouliagos, Hristos and T. D. Stanley. 2009. "Publication Selection Bias in Minimum-Wage Research? A Meta-Regression Analysis." British Journal of Industrial Relations, vol. 47, no. 2, pp. 406-428. 

Hirsch, Barry T., Bruce Kaufman, and Tetyana Zelenska, "Minimum Wage Channels of Adjustment." IZA Discussion Paper No. 6132. Germany: Institute for the Study of Labor. 

Lemos, Sara. 2008. "A Survey of the Effects of the Minimum Wage on Prices." Journal of Economic Surveys, vol. 22, no. 1, pp. 187-212. 

Wolfson, Paul and Dale Belman. Forthcoming. What Does the Minimum Wage Do? Kalamazoo, MI: Upjohn Institute for Employment Research. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق